المكتبة التي تختفي ليلًا” بأسلوب أدبي مشوّق وجاهز للبناء عليه:

 لم يكن آدم يؤمن بالأشياء الغامضة، لكنه كان يؤمن بشيء واحد فقط:

أن بعض الأماكن تخفي أسرارًا لا تظهر إلا لمن ينتبه.

في آخر الشارع القديم، بين بيتين متعبين من الزمن، كان هناك مبنى صغير مغلق دائمًا. بابه الخشبي متآكل، ونوافذه مغطاة بالغبار، ولا لوحة تدل على ما كان يومًا. مرّ آدم بجانبه مئات المرات، ولم يسأل نفسه أبدًا: لماذا وُجد هذا المكان أصلًا؟ 

المكتبة التي تختفي ليلًا” بأسلوب أدبي مشوّق وجاهز للبناء عليه:


📘 الفصل الأول

المبنى الصامت

لم يكن آدم من الأطفال الذين يلفتون الانتباه. لم يكن مشاغبًا، ولا متفوقًا بشكل لافت، ولا حتى كثير الكلام. كان موجودًا دائمًا… لكن كأنه غير مرئي. يجلس في الصف في المقعد القريب من النافذة، يراقب العالم أكثر مما يشارك فيه.

كل يوم، بعد انتهاء المدرسة، يسلك الطريق نفسه عائدًا إلى البيت. شارع قديم هادئ، تصطف فيه بيوت متشابهة، كأن الزمن قرر التوقف عندها منذ سنوات طويلة. كان يعرف كل حجر في ذلك الطريق، كل شجرة، وكل صوت… ما عدا شيء واحد.

المبنى.

يقع في آخر الشارع، بين بيتين مأهولين، لكنه يبدو وكأنه لا ينتمي إليهما. بابه الخشبي باهت اللون، تتقشّر أطرافه، ونوافذه مغطاة بطبقة سميكة من الغبار. لا لوحة، لا اسم، لا أثر لحياة. ومع ذلك، لم يكن مهدّمًا، ولا مهجورًا تمامًا… بل صامتًا فقط.

مرّ آدم بجانبه مئات المرات. لم يتوقف يومًا ليسأل نفسه:

لماذا هذا المبنى هنا؟

كأنه تعلّم، دون أن يدري، أن يتجاهل الأشياء التي لا يفهمها.

في ذلك المساء، كان الجو مختلفًا. السماء ملبّدة بالغيوم، والهواء ساكن بطريقة غير مريحة. عاد آدم إلى البيت، تناول عشاءه بصمت، ثم دخل غرفته. حاول القراءة، لكن الكلمات كانت تتبعثر أمام عينيه. شعر بشيء غريب، كأن هناك فكرة تحاول أن تجذب انتباهه.

نظر إلى الساعة.

الحادية عشرة وخمسون دقيقة.

لم يعرف لماذا نهض من مكانه، ولماذا ارتدى حذاءه بهدوء، ولماذا خرج من البيت دون أن يخبر أحدًا. كان كأن قوة خفية تقوده.

وصل إلى الشارع القديم. كان خاليًا تمامًا. لا سيارات، لا أصوات، حتى الريح بدت وكأنها توقفت احترامًا لشيء سيحدث.

وعندما دقّت الساعة الثانية عشرة…

انطفأت أضواء الشارع دفعة واحدة.

تجمّد آدم في مكانه. قلبه بدأ يخفق بسرعة. وقبل أن يفكّر في العودة، لاحظ شيئًا جعل أنفاسه تنحبس.

نور خافت… يخرج من أسفل باب المبنى الصامت.

اقترب خطوة.

ثم خطوة أخرى.

سمع صوتًا خفيفًا… لم يكن خطوات، ولا همسًا. كان صوتًا يعرفه جيدًا.

صوت تقليب صفحات كتاب.

ارتجفت يده وهو يمدّها نحو الباب. لامس الخشب، فتوقّع أن يكون باردًا وقاسيًا، لكنه كان دافئًا… كأن أحدًا يقف خلفه.

وبدون مقاومة، انفتح الباب.

تراجع آدم نصف خطوة، ثم دخل.

في اللحظة التي تجاوز فيها العتبة، اختفى الشارع خلفه. لم يعد هناك ظلام، ولا سماء، ولا بيوت. كان داخل مكان لم يشبه أي شيء رآه من قبل.

مكتبة.

ليست صغيرة، ولا عادية. رفوف تمتد بلا نهاية، كتب بأحجام وألوان مختلفة، أضواء صفراء دافئة تتدلّى من السقف، ورائحة الورق القديم تملأ المكان.

وقف آدم مدهوشًا، لا يعرف إن كان يحلم أم لا.

ومن خلفه، جاء صوت هادئ، ثابت، وكأنه انتظر هذه اللحظة طويلًا:

— أخيرًا… وصلت.

استدار آدم ببطء.

وهنا، أدرك أن حياته لن تعود كما كانت أبدًا.


الفصل الثاني

نور بعد منتصف الليل

تسمّر آدم في مكانه للحظات، كأن جسده نسي كيف يتحرّك. الصوت الذي سمعه كان واضحًا، قريبًا، لكنه لم يرَ أحدًا. أدار رأسه ببطء، وعيناه تتنقّلان بين الرفوف العالية، والكتب المصطفّة في هدوء غريب.

— مَن هناك؟ سأل بصوت خافت، لم يشبه صوته المعتاد.

لم يأته ردّ مباشر، لكن الضوء الدافئ ازداد سطوعًا قليلًا، كأن المكان نفسه يستجيب له. تقدّم خطوة إلى الداخل، ثم أخرى، حتى أغلق الباب خلفه وحده… من تلقاء نفسه.

التفت آدم بسرعة، ووضع يده على المقبض، حاول فتحه، لكن الباب لم يتحرّك.

— هلو؟ قال بصوت أعلى هذه المرة.

جاءه الردّ أخيرًا، هادئًا، مطمئنًا، من مكان غير محدّد:

— لا تقلق… الأبواب هنا لا تُغلق، بل تنتظر.

لم يفهم آدم ما قيل، لكنه شعر أن الخوف الذي كان يتسلّل إلى صدره بدأ يهدأ قليلًا. نظر حوله مرة أخرى. المكتبة لم تكن مخيفة كما تخيّل، بل كانت تشبه حضنًا واسعًا، مليئًا بالقصص.

بدأ يسير بين الرفوف. لاحظ أن الكتب لم تكن مرتّبة بطريقة عادية. لم تكن هناك عناوين واضحة مثل “تاريخ” أو “علوم” أو “قصص”. بدلًا من ذلك، رأى كلمات غريبة محفورة على أطراف الرفوف:

الاختيار، الخوف، الانتظار، الأمل.

مدّ يده نحو كتاب صغير بلون أزرق، وما إن لمسه حتى شعر بوخزة خفيفة في أصابعه. سحب يده بسرعة.

— غريب… تمتم.

في تلك اللحظة، لاحظ وجود مكتب خشبي قديم في منتصف القاعة، تعلوه مصباح صغير، وخلفه تجلس امرأة. لم يسمع خطواتها، ولم يرَها تظهر، لكنها كانت هناك الآن، كأنها كانت جزءًا من المكان منذ البداية.

كانت ترتدي ثوبًا داكن اللون، وشعرها الرمادي مرفوع بهدوء. ملامحها لم تكن صارمة، ولا مبتسمة تمامًا، لكنها بدت… عارفة.

— اقترب، قالت بهدوء.

تردّد آدم، ثم تقدّم.

— من أنتِ؟ وأين أنا؟

رفعت المرأة نظرها إليه، وتأمّلته طويلًا، كأنها تقرأ شيئًا غير مرئي.

— أنت في المكان الذي تصل إليه حين لا تعرف إلى أين تذهب.

لم تعجبه الإجابة.

— هذا لا يجيب عن سؤالي.

ابتسمت ابتسامة خفيفة.

— اسمي لا يهم. لكن إن أردت، يمكنك أن تناديني أمينة المكتبة.

— مكتبة؟ قال آدم وهو ينظر حوله. — هذه مكتبة؟

— نعم، لكنها ليست مثل أي مكتبة أخرى.

جلس آدم على الكرسي المقابل دون أن يشعر.

— ولماذا أنا هنا؟

وضعت أمينة المكتبة كتابًا سميكًا على المكتب، وفتحته ببطء. كانت صفحاته فارغة.

— لأنك تبحث.

— أبحث عن ماذا؟

— هذا ما ستكتشفه.

شعر آدم بالضيق.

— أنا لم أطلب المجيء إلى هنا.

رفعت رأسها ونظرت إليه مباشرة.

— لا أحد يطلب. المكان هو من يختار.

ساد الصمت لثوانٍ. كان آدم يسمع دقات قلبه بوضوح.

— وهل أستطيع الخروج؟

— بالطبع، قالت بهدوء. — لكن قبل ذلك، يمكنك أن تتجوّل. لا يزورنا الكثيرون، ومن النادر أن يبقى أحد طويلًا.

نهض آدم ببطء، وعاد إلى الرفوف. بدأ يقرأ عناوين بعض الكتب. أحدها كان يحمل اسم: الصوت الذي لم يُستخدم. آخر اسمه: فرص ضاعت بهدوء.

شعر بشيء ينقبض في صدره.

— هذه الكتب… عن ماذا؟ سأل.

— عن أناس، أجابت أمينة المكتبة. — عن لحظات، عن اختيارات لم تُتخذ.

توقّف أمام رفٍ كامل يحمل كلمة واحدة: الخوف.

مدّ يده نحو كتاب، لكن الغلاف لم يتحرّك.

— لماذا لا يفتح؟ سأل بارتباك.

— لأن هذا الخوف ليس خوفك، قالت ببساطة.

جرّب كتابًا آخر… ثم آخر. لا شيء.

بدأ شعور غريب يتسلّل إليه.

— وهل يوجد كتاب يخصّني؟

لم تجبه مباشرة. اكتفت بأن أشارت برأسها نحو زاوية بعيدة من المكتبة، تكاد تختفي في الظل.

— هناك، قالت. — لكنك لست مضطرًا للذهاب.

نظر آدم إلى حيث أشارت. رأى رفًا وحيدًا، عليه كتاب واحد فقط. لم يكن لامعًا، ولا ملوّنًا. كان أسود، بسيطًا، بلا عنوان.

شعر بشيء يشدّه إليه، رغم الخوف الذي بدأ يتسلّل إلى أطرافه.

— ماذا يوجد فيه؟ سأل.

نظرت إليه أمينة المكتبة نظرة مختلفة هذه المرة.

— الحقيقة.

— أي حقيقة؟

— حقيقتك.

صمت آدم.

— وإن لم تعجبني؟

— الحقيقة لا تهتم إن أعجبتك أم لا.

ظلّ واقفًا مكانه. جزء منه أراد أن يركض إلى الباب، أن يعود إلى سريره، إلى حياته العادية. لكن جزءًا آخر… كان فضوليًا، متعبًا من الصمت.

أخذ نفسًا عميقًا، وتقدّم خطوة نحو الرف.

وفي اللحظة التي لمس فيها الكتاب الأسود، شعر بأن الضوء من حوله تغيّر، وأن شيئًا ما في داخله بدأ يستيقظ. 


الفصل الثالث

الباب الذي انفتح

ما إن لامست أصابع آدم غلاف الكتاب الأسود، حتى شعر بوخزة خفيفة، كأن الكتاب يتأكد ممن يلمسه. لم يسحب يده هذه المرة. على العكس، شدّ الغلاف نحوه، فصدر صوت خافت يشبه تنفّسًا عميقًا.

انفتح الكتاب.

لم تكن هناك كلمات في البداية. صفحات بيضاء ساكنة، كأنها تنتظر شيئًا. تردّد آدم، ثم قلب الصفحة الأولى. عندها فقط بدأت الحروف تظهر ببطء، واحدة تلو الأخرى، كأنها تُكتب في تلك اللحظة.

قرأ:

“كان هناك طفل يجلس دائمًا قرب النافذة.”

تجمّد آدم.

هذه الجملة… يعرفها. ليست لأنها غريبة، بل لأنها مألوفة أكثر مما ينبغي.

تابع القراءة، وكل كلمة كانت تضغط على صدره أكثر. الصفحة التالية تحدّثت عن طفل يرى الإجابات، لكنه يخاف من رفع يده. عن طفل يفضّل الصمت لأن الخطأ، في نظره، أخطر من الاختفاء.

— هذا ليس ممكنًا… همس.

رفع رأسه بسرعة، ونظر حوله، كأنه يتوقّع أن يكون أحدهم يراقبه. أمينة المكتبة كانت ما تزال خلف مكتبها، تقلب صفحات كتاب آخر، وكأن ما يحدث أمر عادي تمامًا.

— هل… هل كتبتِ هذا؟ سأل بصوت متوتّر.

لم ترفع نظرها.

— الكتب هنا لا تُكتب بالأقلام.

عاد آدم إلى الكتاب. كانت الصفحات تتغيّر كلما تقدّم في القراءة. ظهرت مواقف عاشها بالفعل: يوم ضحك أحد زملائه حين أخطأ في الإجابة، يوم أراد أن يقول شيئًا مهمًا لكنه ابتلع كلماته، يوم عاد إلى البيت وهو يشعر أنه لم يكن موجودًا حقًا.

بدأت أنفاسه تضطرب.

— توقّف، قال فجأة، وأغلق الكتاب بقوة.

في اللحظة نفسها، انطفأت بعض الأضواء في المكتبة، واهتزّ الهواء من حوله. شعر بأن المكان لم يعجبه ما فعله.

— لا يمكنك إغلاق قصة قبل أن تفهمها، قالت أمينة المكتبة أخيرًا، بصوت أكثر جدية.

— هذه ليست قصة! صرخ آدم. — هذه حياتي!

اقتربت منه بهدوء.

— لا. هذه اختياراتك.

نظر إليها بعينين متّسعتين.

— ماذا تقصدين؟

أشارت إلى الكتاب.

— ما تقرؤه ليس ما حدث، بل ما يحدث حين تختار الصمت مرة بعد مرة.

ابتلع آدم ريقه.

— وهل… هل يمكن أن تتغيّر الصفحات؟

ابتسمت ابتسامة صغيرة.

— هذا يعتمد عليك.

فتح الكتاب مرة أخرى، لكن هذه المرة، لم يقرأ. نظر فقط. لاحظ شيئًا لم ينتبه له من قبل: في نهاية كل صفحة، كان هناك فراغ صغير، كأنه ينتظر كلمة لم تُكتب بعد.

— ما هذا؟ سأل.

— أماكن للقرارات التي لم تتخذها، أجابت.

مدّ إصبعه نحو أحد الفراغات، وما إن لمسه حتى تغيّرت الصفحة. لم تعد تحكي عن طفل صامت، بل عن لحظة واحدة… لحظة رفع فيها يده، رغم الخوف.

شعر آدم بدفء غريب ينتشر في صدره.

— إذن… أنا لست عالقًا؟ قال بلهفة.

— لا أحد عالق، قالت أمينة المكتبة. — بعضهم فقط يخاف الحركة.

أغلق آدم الكتاب بهدوء هذه المرة.

— لماذا أنا؟ لماذا أُعطيت هذا؟

نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت:

— لأنك وصلت إلى الباب.

— أي باب؟

أشارت إلى باب صغير لم يكن موجودًا من قبل، في الجدار الخلفي للمكتبة. كان بسيطًا، بلا زخرفة، يشبه بابًا داخليًا أكثر منه مخرجًا.

— هذا الباب لا يظهر إلا لمن يرى نفسه بوضوح، قالت.

تقدّم آدم نحوه، وكل خطوة كانت تجعل قلبه يدق أسرع. وضع يده على المقبض، وتردّد.

— ماذا يوجد خلفه؟

— ما تختاره أنت، قالت أمينة المكتبة. — لكن تذكّر، ليس كل من يفتح الباب يعود كما كان.

أخذ آدم نفسًا عميقًا، وضغط على المقبض.

انفتح الباب.

لم يرَ غرفة، ولا ممرًا، بل ضوءًا أبيض قويًا، وسمع صوتًا يشبه صوته… لكنه أكثر ثقة.

وفي تلك اللحظة، أدرك أن المكتبة لم تكن المكان الحقيقي.

كانت مجرد البداية.

الفصل الرابع

أمينة المكتبة

لم يكن الضوء خلف الباب أبيض تمامًا كما ظنّ آدم في البداية، بل كان أشبه بضبابٍ ناعم، يلتفّ حوله دون أن يؤذيه. أغلق عينيه للحظة، وحين فتحهما، وجد نفسه ما يزال داخل المكتبة… لكن شيئًا ما تغيّر.

الرفوف لم تعد بلا نهاية. أصبحت أقرب، أوضح، وكأن المكان قرّر أخيرًا أن يسمح له بالرؤية. أما أمينة المكتبة، فكانت تقف بجانبه الآن، لا خلف المكتب كما اعتاد أن يراها.

— لا تقلق، قالت بهدوء. — لم تعبر الباب بعد.

نظر إليها بتوتّر.

— إذن… لماذا شعرتُ أن كل شيء تغيّر؟

سارت ببطء بين الرفوف، وأشارت له أن يتبعها.

— لأنك بدأت تفهم.

تردّد آدم، ثم سار خلفها. لاحظ أن خطواتها لا تصدر صوتًا، كأن الأرض تعرفها جيدًا. توقّفت أمام رفٍ يحمل كتبًا متشابهة في الحجم، مختلفة في اللون.

— هل تعلمين كل ما في هذه الكتب؟ سأل.

ابتسمت دون أن تنظر إليه.

— أنا لا أحفظ القصص… أنا أحرسها.

— تحرسينها ممن؟

توقّفت، والتفتت إليه أخيرًا.

— ممن يقرأها قبل أوانها.

لم تعجبه الإجابة، لكنها بدت منطقية بطريقة غريبة.

— ومن أنتِ فعلًا؟ سأل بصوت أكثر جدية. — لماذا تعرفين اسمي؟ ولماذا هذا المكان يعرفني؟

سادت لحظة صمت. ثم قالت:

— لأنني كنتُ مثلك يومًا ما.

تجمّد آدم.

— ماذا تقصدين؟

سارت إلى المكتب الخشبي، وفتحت درجًا صغيرًا، وأخرجت كتابًا قديمًا. غلافه كان باهتًا، وعليه آثار استعمال طويل. وضعته أمام آدم.

— افتحه.

تردّد، ثم فعل. كانت الصفحات مليئة بالكتابة، بخط صغير متناسق. وفي الصفحة الأولى، قرأ اسمًا… ليس اسمه.

— هذا كتابك؟ سأل بدهشة.

— كان كذلك، أجابت بهدوء.

جلس آدم دون أن يشعر.

— هل… هل كانت قصتك مثل قصتي؟

جلست أمامه هذه المرة.

— كنت أخاف، مثلك. كنت أظن أن الصمت يحفظني، وأن الاختفاء أمان. وعندما وصلتُ إلى هذه المكتبة، كنت على وشك المغادرة.

— لكنك بقيتِ.

— نعم، قالت. — لأنني فهمت أن بعض الأماكن لا تظهر لتُزار… بل لتغيّر من يزورها.

نظر آدم حوله.

— وهل تغيّرتِ؟

أغلقت الكتاب ببطء.

— بما يكفي لأصبح أمينة.

شعر آدم بقشعريرة خفيفة.

— هل هذا يعني أنني… سأبقى هنا؟

هزّت رأسها.

— لا. ليس كل من يدخل يصبح أمينًا. هذا يتطلّب اختيارًا آخر.

— أي اختيار؟

وقفت مرة أخرى، وأشارت إلى الرفوف.

— أن تحرس قصتك أولًا.

لم يفهم.

— كيف؟

أشارت إلى الكتاب الأسود الذي كان ما يزال في يده.

— هذا الكتاب لا يُغلق إلى الأبد. إن تجاهلتَ ما فيه، سيعود للظهور، في صورة خوف، أو صمت، أو ندم.

نظر آدم إلى الغلاف.

— وإذا واجهته؟

— سيتحوّل إلى شيء آخر، قالت بابتسامة خفيفة. — فرصة.

سار آدم نحو النافذة القريبة. لاحظ لأول مرة أن خلف الزجاج لا يوجد شارع، ولا سماء، بل مشاهد متحرّكة. رأى نفسه في المدرسة، في البيت، في مواقف لم تحدث بعد.

— هل هذه… المستقبل؟ سأل.

— احتمالات، أجابت. — كل مشهد يعتمد على قرار.

تذكّر الفراغات الصغيرة في نهاية الصفحات.

— والباب؟ قال فجأة. — الباب الذي رأيته.

اقتربت منه.

— ذلك الباب لا يؤدي إلى مكان. يؤدي إلى لحظة.

— أي لحظة؟

— اللحظة التي تختار فيها أن تكون حاضرًا، لا مختفيًا.

شعر آدم بثقل الكلمات.

— وماذا لو فشلت؟

نظرت إليه نظرة دافئة هذه المرة.

— الفشل ليس أن تحاول وتخطئ… الفشل هو أن لا تفتح الكتاب أبدًا.

ساد صمت طويل. كان آدم يسمع دقّات قلبه، لكنها لم تعد سريعة كما قبل. كانت ثابتة.

— هل أستطيع العودة؟ سأل أخيرًا.

— نعم، قالت. — لكن تذكّر، المكتبة لا تختفي… أنت فقط من يبتعد عنها.

مدّت يدها، وفتحت بابًا جانبيًا صغيرًا لم يكن موجودًا قبل لحظة.

— هذا هو طريق العودة الليلة.

وقف آدم عند العتبة، ثم التفت إليها.

— هل سأراكِ مرة أخرى؟

ابتسمت.

— إذا احتجتَ، ستجدني. لكن أتمنى ألا تحتاج.

خطا آدم خطوة إلى الخارج، وشعر بالهواء البارد يلامس وجهه. وقبل أن يختفي الضوء خلفه، سمع صوتها الأخير:

— احمل الكتاب معك… حتى إن لم يكن في يدك.

وأُغلق الباب بهدوء. 

الفصل الخامس

رفوف بلا نهاية

عاد آدم إلى مكانه في الشارع القديم، لكن شيء بدا مختلفًا. لم تعد الأصوات المعتادة للحي تؤثر فيه كما كانت. كل خطوة كان يخطوها كانت مصحوبة بشعور غريب، كأن قلبه ما زال داخل المكتبة، مع الكتب والصفحات التي لم يُغلقها بعد.

تردّد للحظة، ثم تذكر كلمات أمينة المكتبة: "احمل الكتاب معك… حتى إن لم يكن في يدك." حاول أن يفهم المعنى، لكنه لم يجد جوابًا. بدلاً من ذلك، شعر بحاجة ملحة للعودة، لمعرفة المزيد عن تلك المكتبة الغامضة.

في اليوم التالي، بعد المدرسة، أخذ طريقه إلى المبنى القديم. كان مبنى مهجورًا كما تركه، لا نور، لا صوت. لكن هذه المرة، لم يشعر بالخوف، بل بشيء أشبه بالفضول العميق. قلبه يدفعه للبحث.

اقترب من الباب، ولمسه بحذر. هذه المرة، لم يظهر الضوء ولا سمع الصوت. شعر بخيبة صغيرة، لكنه تذكر نصيحة المرأة: "المكتبة لا تختفي… أنت فقط من يبتعد عنها."

جلس على الرصيف أمام المبنى، وأغلق عينيه للحظة. أخذ نفسًا عميقًا، وفجأة شعر بتغيّر داخلي. كأن الكتب والصفحات كانت ترافقه، وكأن كل خطوة يخطوها تحاكي ما رآه هناك.

في تلك الليلة، حلم آدم. حلم بالمكتبة، بالرفوف، بالكتب التي لا نهاية لها. كل رف يحمل قصة، كل كتاب ينبض بحياة مختلفة. رأى نفسه يمشي بين الرفوف، يلمس الغلاف، ويقرأ كلمات تتحدث عن شجاعته، عن صمته، عن لحظات اختار فيها أن يكون حاضرًا بدلًا من مختفٍ.

استيقظ آدم صباحًا وقد قرر أنه لن يتجاهل ما شعر به. أخذ حقيبته، ووضع فيها دفاتر وأقلام، وبدأ يفكر في طريقة للعودة إلى المكتبة، أو على الأقل استحضار شعورها بالفضول والاكتشاف.

بعد يومين، عاد إلى المبنى مرة أخرى. هذه المرة، قرر أن يطرق الباب، لا أن يلمسه فقط. طرقه بثلاث طرق خفيفة، ثم وقف منتظرًا. لم يفتح الباب. شعر بالإحباط، لكنه لم يبتعد. جلس أمامه، وبدأ يركز على الأفكار التي كانت تدور في رأسه: "أريد أن أتعلم، أريد أن أكون شجاعًا."

وبينما كان يركز، حدث شيء غريب. بدأ الهواء يهتز، وتكوّمت ظلال خفيفة على الأرض. فتح الباب فجأة من تلقاء نفسه، وكأن المكان يعرفه الآن. دخل آدم، وهذه المرة بكل ثقة، وكأن خطواته تعلّمت طريقها.

الداخل كان كما تذكّره من قبل، لكنه لاحظ فرقًا كبيرًا: الرفوف أصبحت أكثر وضوحًا، والكتب أكثر حيوية. كل كتاب كان يبدو وكأنه يحييه النظر إليه، وكأن الصفحات تنتظر أن يُقرأ محتواها. شعر آدم بالإثارة، وبالخوف قليلًا، لكنه لم يبتعد.

بدأ يتجوّل ببطء، يلمس بعض الكتب، ويلاحظ أنها لا تفتح إلا عندما يكون مستعدًا. اكتشف أن هناك رفوفًا تحمل عناوين مثل الخيال، الشجاعة، الخيبات، الأحلام. بعض الكتب كانت ثقيلة، وبعضها خفيفة جدًا، لكنه شعر أن كل كتاب يحوي رسالة يريد المكان إيصالها له.

اقترب آدم من رف صغير مظلم، وعليه كتب بلا عناوين. تردّد قبل أن يلمس أحدها، لكنه قرر أن يجرّب. لحظة لمسه للغلاف، اهتزّ الهواء من حوله، وظهرت كلمات في الصفحات تدريجيًا: “أنت أقوى مما تعتقد، وأشجع مما تشعر.”

ابتسم آدم. لأول مرة شعر بالثقة. فهم أن المكتبة لم تكن مجرد مكان لقراءة الكتب، بل كانت اختبارًا له، لتعلم معنى الشجاعة والقرار.

في تلك اللحظة، سمع صوت أمينة المكتبة:

— لاحظتَ الفراغات هذه المرة.

التفت إليها، ووجدها تقف عند أحد الممرات، تراقبه بابتسامة هادئة.

— الفراغات؟ سأل.

— نعم، أجابت. — هناك صفحات لم تُملأ بعد، تنتظر اختيارك، وكل قرار تتخذه سيملأها.

أخذ آدم نفسًا عميقًا، وبدأ يقرأ كل كتاب يلمسه، ببطء، مستمتعًا بكل كلمة، مستوعبًا كل معنى. لاحظ أن كل كتاب يقرأه يجعل قلبه أهدأ، وعقله أكثر وضوحًا. بدأ يفهم أن هذه المكتبة ليست مجرد كتب، بل مرآة لذاته.

تجوّل لساعات داخل المكتبة، واستكشف كل زاوية ورف. وكل مرة يلمس كتابًا، شعر بأن جزءًا منه يتغير، وأن الخوف الذي كان يحمله يخف تدريجيًا. أصبح يبتسم أكثر، يشعر بثقة في نفسه لم يعرفها من قبل.

وفي النهاية، وصل إلى رف بعيد، أكثر ظلمة وغموضًا، وعليه كتاب واحد فقط، أسود تمامًا، لا عنوان له. تذكّر نصيحة المرأة: "هذا الكتاب لا يُفتح إلا لمن يرى نفسه بوضوح."

اقترب منه، ووضع يده على الغلاف. شعر ببرودة غريبة، لكنها لم تكن مؤلمة. كانت دعوتًا للغوص في أعماق نفسه، لمواجهة ما لم يجرؤ على رؤيته من قبل.

أغلق عينيه للحظة، وتذكر كل المرات التي لم يرفع فيها يده، كل الفرص التي فاتته، كل اللحظات التي اختار فيها الاختفاء. وعندما فتح عينيه مرة أخرى، شعر بشيء جديد… شيء أقوى.

كان مستعدًا. 

الفصل السادس

الكتاب الذي لا يحمل اسمًا

وقف آدم أمام الرف الغامض، والكتاب الأسود بين يديه. لم يكن هناك أي عنوان، لا رسم، ولا لون يميّزه عن الظلام من حوله سوى الغلاف الداكن البسيط. كان صامتًا، لكنه ينبض بشيء غريب، كأن قلبه ينسجم مع دقاته.

تردّد للحظة، ثم تذكّر كلمات أمينة المكتبة:

"هذا الكتاب لا يُفتح إلا لمن يرى نفسه بوضوح."

أخذ نفسًا عميقًا، ورفع الغلاف.

كانت الصفحات بيضاء تمامًا. شعر آدم بخيبة، لكنه لم يتراجع. وضع إصبعه على الصفحة الأولى، وفجأة، بدأت الحروف بالظهور، واحدة تلو الأخرى، وكأنها تُكتب في اللحظة نفسها.

قرأ:

"كان هناك طفل يحب الاختباء خلف صمته، يخاف من أن يخطئ، ويختار الصمت على التعبير."

تجمّد آدم. كان يعرف أن هذه الجملة تتحدث عنه، عن كل لحظات الخوف التي عاشها، عن كل مرة لم يجرؤ فيها على قول كلمة في الفصل، عن كل لحظة شعر فيها أنه غير مرئي.

تابع القراءة، والصفحات تتغيّر مع كل نفسٍ يلتقطه، مع كل شعور يتدفق في داخله. رأى نفسه صغيرًا، وحيدًا، وحائرًا بين الرغبة في الكلام والخوف من الرفض. كل خطأ صغير كان يبدو له جبلًا لا يمكن تسلقه.

ثم ظهرت كلمات جديدة:

"لقد حان الوقت لتختار. لتكون حاضرًا، لا مختفيًا."

شعر آدم بقوة جديدة تتسلّل إلى قلبه. كان الخوف لا يزال موجودًا، لكنه أصبح خلفه، كظل يمكن تجاوزه. أدرك أن الكتاب لم يكن مجرد صفحات، بل مرآة، يعكس مخاوفه، أحلامه، وإمكاناته.

أخذ قرارًا. رفع رأسه، ونظر إلى الصفحات مرة أخرى، لكنه هذه المرة لم يشعر بالخوف. بل بشيء أشبه بالإصرار. بدأ يقلب الصفحات بسرعة، مستمتعًا بكل كلمة، مستوعبًا كل معنى، وكل لحظة كانت تحكي عن اختياراته الماضية والمستقبلية.

ثم رأى فجأة صفحة فارغة كبيرة، تنتظره. شعر أن هذه الفرصة هي الأهم، الفرصة التي ستغيره. مدّ يده، وكتب كلمة واحدة بخط قلبه:

"سأكون حاضرًا."

فجأة، اهتزّ الكتاب في يده، وتوهّج الغلاف الأسود بضوءٍ خافت. ارتجف المكان من حوله، وكأن المكتبة كلها تحتفل بهذا القرار. شعر آدم بأن قوةً داخله تحرّرت، شعور لم يعرفه من قبل، شعور بأنه ليس مجرد طفل صامت، بل شخص قادر على الاختيار والمواجهة.

ثم سمع صوت أمينة المكتبة خلفه:

— أحسنت يا آدم. هذا هو ما كنت أبحث عنه. لقد وجدت كتابك.

التفت إليها، وابتسمت. لم تكن الكلمات بحاجة إلى شرح. كل شيء واضح: القرار الذي اتخذه، الشجاعة التي أظهرها، هي ما يهم. لم تعد المكتبة مجرد مكان للكتب، بل أصبحت جزءًا منه، جزءًا من نموّه الداخلي.

أغلق الكتاب برفق، ووضعه على الرف. شعر بأن الطاقة التي أحاطت به تهدأ، وأن كل شيء أصبح أكثر وضوحًا. نظر حوله، وكل كتاب بدا وكأنه يشكره بطريقة غير مرئية.

— هل انتهى كل شيء؟ سأل آدم.

— لا، قالت أمينة المكتبة، — البداية الحقيقية الآن. لقد فهمت الطريق، وستستمر في الحياة وأنت تعرف أنك قادر على مواجهة مخاوفك.

ابتسم آدم، وأخذ نفسًا عميقًا، وخرج من المكتبة عبر الباب الصغير الذي فتحته له المرأة. عاد إلى الشارع القديم، لكن قلبه مليء بالشجاعة والثقة، وكأن خطواته تؤكد على أن شيئًا ما تغيّر إلى الأبد.

في الليلة التالية، جلس آدم في غرفته، وفتح دفتره القديم. بدأ يكتب كل ما شعر به، كل ما تجرأ على التعبير عنه. لم يعد الصمت يسيطر عليه. لم يعد يشعر بأنه غير مرئي. المكتبة لم تختفِ، لكنها انتقلت معه… إلى قلبه وعقله وروحه.

ومن تلك اللحظة، كل مرة شعر بالخوف، تذكّر الكتاب الأسود، تذكّر الصفحات البيضاء التي تحوّلت إلى قرارات، وتذكّر أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل القدرة على مواجهته. 


الفصل السابع

القصة التي تشبهني

بعد تلك الليلة، لم يعد آدم يرى العالم كما كان. كل التفاصيل الصغيرة التي كان يغفل عنها أصبحت واضحة، وكل قرار اتخذه أو أخطأ فيه صار جزءًا من شخصيته، لا شيء يضيع. ومع ذلك، كانت هناك رغبة قوية بداخله لمعرفة المزيد عن هذا الشعور الغريب، عن المكتبة، وعن الكتاب الأسود الذي حمله معه… في قلبه على الأقل.

في الليلة التالية، جلس آدم في غرفته، وأمسك بالدفتر الذي بدأ يكتب فيه يوميًا. تذكّر الصفحات البيضاء في الكتاب الأسود، والفكرة التي أدركها: كل كلمة يكتبها أو يختارها تملأ الفراغات في حياته.

أخذ دفتره وبدأ يكتب عن كل موقف حدث معه في المدرسة، عن المرات التي صمت فيها رغم معرفته بالإجابة، وعن المرات التي تردّد فيها قبل أن يتحدث. كل كلمة كتبها كانت تشبه صفحات الكتاب الأسود. شعر كما لو أن قصته، قصة حياته، بدأت تأخذ شكلًا واضحًا، وأن القرارات الصغيرة التي تجاهلها سابقًا بدأت تتبلور في كتابه الخاص.

وفي صباح اليوم التالي، بينما كان في طريقه إلى المدرسة، لاحظ شيئًا جديدًا: كل موقف كان يمرّ به، كل ابتسامة زميل، كل خطأ صغير، بدا وكأنه جزء من كتاب حيّ. لم تعد المواقف عشوائية، بل دروس صغيرة تظهر له، مثل صفحات قابلة للقراءة، تنتظر أن يفهمها.

جلس في الصف، وأخذ نفسًا عميقًا، ورفع يده لأول مرة ليجيب عن سؤال. لم يكن خائفًا. حتى لو أخطأ، كان يعرف أن هذه الصفحة ستُملأ بالتجربة، وستكون جزءًا من قصته. ابتسم له المعلم، وابتسم له زملاؤه. لم يشعر بالحرج، بل بالشجاعة.

بعد المدرسة، عاد إلى المبنى القديم. هذه المرة، لم يكن هناك ضوء ولا صوت، لكنه شعر بالطمأنينة. جلس أمام الباب المغلق، وأغلق عينيه للحظة، متذكّرًا كلمات أمينة المكتبة:

"المكتبة لا تختفي… أنت فقط من يبتعد عنها."

تخيّل نفسه يدخل المكتبة مرة أخرى، ويتجوّل بين الرفوف. في خياله، رأى الكتب تتفتح من تلقاء نفسها، صفحاتها تتلو قصصه، تشجعه، تعلمه، وتذكره بما يمكن أن يكون عليه إذا اختار الشجاعة بدلًا من الخوف.

ثم ظهر الكتاب الأسود أمامه، على الرف. لم يكن غامضًا هذه المرة، بل بدا كمرآة حية تعكس كل اختياراته. مدّ يده في الخيال، وقرأ الصفحات بسرعة. كل صفحة تحكي عن موقف يعيشه يوميًا، وكل كلمة تشجعه على اتخاذ القرارات الصحيحة، ومواجهة المواقف التي كان يهرب منها سابقًا.

شعر آدم بسعادة غريبة. لم يعد الكتاب مجرد كتاب، بل أصبح صديقًا يرشده، ومرشدًا لحياته. أدرك أن كل ما كان يخاف منه ليس إلا تجربة يجب أن يخوضها، وأن كل صفحة بيضاء في حياته تنتظر منه الشجاعة ليكتبها.

في تلك الليلة، كتب في دفتره الطويل:

"لقد وجدت قصتي… كل صفحة في حياتي، وكل لحظة لم أختر فيها الصمت، كل قرار اتخذته، كل ابتسامة، كل خطأ، كل نجاح… كلها أصبحت جزءًا مني."

أغلق الدفتر، ونظر إلى السماء من نافذته. تذكّر كلمات المرأة:

"احمل الكتاب معك… حتى إن لم يكن في يدك."

ابتسم آدم. شعر بأن الكتاب الأسود، رغم أنه لم يكن بين يديه، أصبح جزءًا من قلبه وعقله وروحه. شعر بقوة أكبر، بثقة أكبر، وبشجاعة لم يعرفها من قبل.

وفي الصباح التالي، بينما كان يتجول في المدرسة، لاحظ شيئًا جديدًا: كل موقف أصبح درسًا، وكل تجربة أصبحت فرصة، وكل شخص حوله أصبح جزءًا من قصته التي لم تعد مجرد صفحات في كتاب، بل حياة يعيشها بكل وضوح ووعي.

وفي تلك اللحظة، أدرك أن المكتبة لم تختفِ أبدًا، بل انتقلت معه، إلى قلبه، إلى اختياراته، إلى القرارات التي سيستمر في اتخاذها، وإلى الحياة التي سيبنيها بنفسه.

ابتسم وهو يرفع رأسه، مستعدًا لمواجهة كل يوم جديد، وكل تجربة جديدة، بكل شجاعة وثقة. 

الفصل الثامن

اهتزاز المكتبة

في إحدى الليالي، بينما كان آدم مستغرقًا في كتابة يومياته، شعر بشيء غريب. لم يكن مجرد صوت أو حركة، بل إحساسٌ اهتزّ في داخله، وكأن قلبه يقرع طبولًا لا يسمعها سوى هو.

أغلق دفتره ببطء، ووقف. نظر حوله في غرفته، وكل شيء بدا عاديًا، لكن شعورًا بالقلق انتابه. تذكّر المكتبة، الرفوف، الكتب، والكتاب الأسود الذي لم يكن معه فعليًا، لكن حضوره كان محسوسًا في داخله.

أخذ نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه للحظة. وفجأة، شعر بأن الهواء حوله اهتز، وكأن المكان كله يهتز من دون سبب ظاهر. لم يكن في الشارع أو في البيت أي حركة، لكن داخله شعر بنفس الاهتزاز، كما لو أن المكتبة تتواصل معه بطريقة خفية.

تذكّر كلمات أمينة المكتبة:

"الكتاب الحقيقي لا يُحمل باليد… بل بالقلب."

ابتسم، لكنه شعر بفضول شديد لمعرفة سبب هذا الاهتزاز. جلس على السرير، وأغلق عينيه مرة أخرى، متخيلاً المكتبة أمامه. وفي خياله، رأى الرفوف تتحرك، الكتب تتمايل، والنور يرقص بين الظلال. كل كتاب يبدو وكأنه ينبض بالحياة، وكل صفحة تنتظر أن تُقرأ.

اقترب من الكتاب الأسود في خياله. لم يكن مجرد غلاف داكن، بل أصبح نافذة على كل ما لم يختبره بعد. لم يكن مجرد قصص عن الخوف والصمت، بل قصص عن القرارات، التحديات، والانتصارات الصغيرة.

فجأة، اهتزت المكتبة بقوة أكبر، وكأنها تصرخ بصوت صامت:

— خذ القرار… الآن.

شعر آدم برهبة، لكنه لم يبتعد. أدرك أن الاهتزاز لم يكن مجرد حدث، بل اختبارًا جديدًا. يجب أن يواجه ما لم يجرؤ على مواجهته، أن يختار الشجاعة، أن يملأ الفراغات التي تركها في قلبه.

اقترب من رفوف تحمل عناوين: الخيارات الصعبة، المواجهة، الحقيقة، الشجاعة. شعر بأن كل كتاب يلمسه يعطيه قوة أكبر، بينما يزيل الخوف تدريجيًا من داخله.

مدّ يده نحو كتاب بعنوان المواجهة. فتحه، وظهرت كلمات تحاكي تجاربه: المواقف التي تردّد فيها، اللحظات التي اختار فيها الصمت، والمواقف التي كان من الممكن أن يكون حاضرًا فيها بقوة.

قرأ كل كلمة بتركيز، حتى شعر بأن قلبه أصبح أخف، وعقله أكثر وضوحًا. أدرك أن المكتبة لم تكن تهتز بسبب قوة خارجية، بل بسبب قراره الداخلي. كل اهتزاز كان انعكاسًا لشجاعته المتزايدة، لقوة اختياره أن يواجه نفسه.

ثم شعر بشيء آخر: صفحات الكتاب الأسود بدأت تتوهج. كانت الصفحات البيضاء، التي ظنّ يومًا أنها خالية، تمتلئ تدريجيًا بكلماته، بقراراته، وبتجاربه. كل كلمة كتبها في دفتره، كل اختيار اتخذه، أصبح جزءًا من هذا الكتاب، كأن المكتبة تتأكد من أنه فهم الدرس.

وفي تلك اللحظة، سمع صوتًا هادئًا خلفه:

— أنت مستعد الآن، قال الصوت.

التفت بسرعة، ولم يرَ أحدًا، لكن شعر بحضور أمينة المكتبة كما لو كانت واقفة بجانبه، مبتسمة برضا.

— لقد واجهت أول اختبار حقيقي لك، قالت كلماتها في ذهنه. — الاهتزاز ليس نهاية، بل بداية. لقد فهمت أن القوة الحقيقية ليست في غياب الخوف، بل في القدرة على مواجهته واختيار الشجاعة.

شعر آدم بالطمأنينة، لكنه عرف أن هذه ليست النهاية. الاهتزاز لم يكن مجرد حدث، بل تذكير دائم بأن الحياة مليئة بالاختبارات، وأن كل قرار صغير أو كبير يترك أثره في الكتاب الذي يحمله في قلبه.

أغلق دفتره هذه المرة بابتسامة، وشعر بأن المكتبة لم تعد بعيدة عنه. كانت جزءًا منه، جزءًا من قراراته، جزءًا من قلبه وعقله وروحه.

ومن تلك اللحظة، أدرك أن كل اهتزاز أو خوف أو تجربة صعبة ليست سوى دعوة للنمو، وأنه أصبح قادرًا على مواجهة كل ما يأتي بثقة وشجاعة، حتى لو لم يكن هناك ضوء أو مكتبة حقيقية أمامه. 

الفصل التاسع

العودة إلى الواقع

استيقظ آدم في صباح اليوم التالي، ووجد نفسه في غرفته العادية. الشمس تتسلل عبر النافذة، ورائحة الفطور تنتشر في البيت، والشارع الخارجي يزدحم بالأصوات المعتادة. كل شيء بدا طبيعيًا، لكنه لم يشعر أنه عاد إلى نفس الشخص الذي كان عليه قبل دخول المكتبة.

جلس على سريره، وأمسك بالدفتر الذي بدأ يكتب فيه. كان الدفتر مليئًا بالكلمات، القرارات، والمشاعر التي اكتسبها من رحلته الداخلية. شعر بأن كل كلمة كتبها كانت جزءًا من كتابه الأسود، الذي لم يكن بين يديه لكنه أصبح جزءًا منه.

تذكّر الكتب، الرفوف، أمينة المكتبة، والكتاب الأسود الذي واجهه. لم يعد خائفًا من مواجهة نفسه، بل شعر بشجاعة لم يعرفها من قبل. أدرك أن المكتبة لم تكن مجرد مكان، بل كانت انعكاسًا لداخله، مرآة لكل مخاوفه، قراراته، وشجاعته الكامنة.

خرج من غرفته، ونظر حوله في الشارع. كل الأشياء المعتادة التي كان يغفل عنها أصبحت واضحة: وجوه الناس، أصوات السيارات، الأشجار، وحتى الرفوف الصغيرة في المكتبات الأخرى. شعر بأن كل شيء مرتبط به، وأن الحياة مليئة بالفرص والخيارات التي تنتظر منه أن يختار، لا أن يختفي.

في المدرسة، كان اليوم مختلفًا. جلس آدم في الصف، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يرفع يده للإجابة على سؤال المعلم. لم يكن متوترًا كما في السابق. حتى لو أخطأ، كان يعلم أن الخطأ جزء من التعلم، وأن كل قرار يتخذه يضيف صفحة جديدة إلى كتابه الشخصي.

بعد الدوام المدرسي، قرر الذهاب إلى المبنى القديم مرة أخرى. كان المبنى مهجورًا كما تركه، لكن قلبه لم يخف. وقف أمام الباب، ولمس الخشب البارد، وابتسم. لم يكن بحاجة إلى ضوء، أو صمت، أو أي علامة من الخارج. كان يعرف أن المكتبة أصبحت معه، في قلبه وعقله وروحه.

جلس أمام الباب، وأغلق عينيه للحظة، متذكّرًا كل لحظة في المكتبة: الكتب، الصفحات، والاختبارات التي مرّ بها. شعر بالطمأنينة، وفتح عينيه مبتسمًا.

عاد إلى البيت، وبدأ في كتابة يومياته كما لم يفعل من قبل. كل صفحة مليئة بالكلمات، القرارات، والمشاعر التي اكتسبها. كتب عن كل موقف واجهه في المدرسة، عن كل تجربة، عن كل قرار اتخذه. لم يعد الصمت يسيطر عليه، بل أصبح قادرًا على التعبير عن نفسه بثقة ووعي.

في تلك اللحظة، شعر أن الحياة أصبحت أكثر وضوحًا، وأن كل خيار صغير أو كبير يمكن أن يضيف معنى جديدًا. تذكّر كلمات أمينة المكتبة:

"المكتبة لا تختفي… أنت فقط من يبتعد عنها."

ابتسم آدم، وعرف أن المكتبة لم تختفِ أبدًا، بل انتقلت معه إلى واقعه، إلى قلبه، إلى عقله، وإلى كل قرار يتخذه.

وفي المساء، جلس أمام نافذته، وأمسك بالقلم والدفتر، وكتب جملة واحدة فقط:

"أنا حاضر… وكل يوم فرصة جديدة."

أغلق الدفتر، وتنفس بعمق. كان يعلم أن كل تجربة، كل قرار، وكل لحظة، أصبحت جزءًا من قصته، وأنه أصبح قادرًا على مواجهة الحياة بشجاعة وثقة لم يعرفهما من قبل. 

الفصل العاشر

الكتاب داخل القلب

جلس آدم في غرفته، يحدق في الدفتر أمامه. لم يكن مجرد دفتر عادي، بل أصبح مرآة لرحلته الداخلية، لخياراته، لشجاعته، ولحياته التي بدأت تتغير منذ دخوله المكتبة. شعر بأن كل صفحة كتبها تمثل جزءًا من الكتاب الأسود الذي لم يحمله بين يديه، لكنه أصبح موجودًا داخله، في قلبه وروحه.

تذكّر كل لحظة في المكتبة: الرفوف الطويلة، الكتب التي تنتظر أن تُقرأ، أمينة المكتبة التي لم تكن هناك لتقوده، بل لتساعده على اكتشاف ذاته. تذكّر كل اختبار، كل اهتزاز، وكل قرار اتخذه، وكل كلمة كتبها في الصفحات البيضاء.

ابتسم، وشعر بالسلام الداخلي لأول مرة. لم يعد الخوف يسيطر عليه. لم تعد التجارب الصعبة تشكّل تهديدًا، بل كانت فرصًا لتعلم المزيد عن نفسه وعن الحياة.

قرر أن يكتب رسالة لنفسه في المستقبل. أخذ ورقة جديدة، وكتب:

"كل كتاب، كل صفحة، كل قرار، جزء منك. لا تخف، وكن حاضرًا دائمًا. الشجاعة ليست غياب الخوف، بل القدرة على مواجهته."

ثم أغلق الورقة ووضعها بجانب الدفتر. شعر وكأن هذه الرسالة هي الجسر بين الماضي، الحاضر، والمستقبل. كل شيء أصبح واضحًا: القرارات التي لم يتخذها، اللحظات التي كان يهرب فيها، كل ذلك أصبح درسًا يساعده على النمو.

في الأيام التالية، بدأ آدم يرى العالم بعين جديدة. كل موقف، كل شخص، كل تجربة، كانت فرصة لإضافة صفحة جديدة إلى كتابه الداخلي. لم يعد ينتظر أن تكون الظروف مثالية، بل تعلم أن الشجاعة تكمن في اتخاذ القرار في اللحظة نفسها، مهما كان صغيرًا.

وفي المدرسة، بدأ يشارك، يرفع يده، يعبّر عن نفسه، يبتسم، ويواجه كل موقف بثقة. لاحظ زملاؤه والمعلمون الفرق الكبير في شخصيته، لكن آدم لم يبالِ. كان يعلم أن التغيير الحقيقي يحدث بداخله، وليس بسبب من حوله.

وفي البيت، استمر في الكتابة. كل يوم يملأ دفتره بالقصص، القرارات، والمشاعر. شعر بأن كل كلمة يكتبها تعيد تشكيله، وأن الكتاب الأسود لم يعد مجرد مكان أو غلاف، بل أصبح داخله، جزءًا من قلبه وعقله وروحه.

ذات مساء، جلس أمام النافذة، وأغلق عينيه للحظة، متذكّرًا المكتبة، الرفوف، الكتب، والاهتزازات. ثم تنفّس بعمق، وابتسم. شعر بالامتنان لكل شيء: لكل خوف واجهه، لكل قرار اتخذه، ولكل لحظة صمت لم يعد يخاف منها.

عرف أنه أصبح حاضرًا بالكامل في حياته، وأن كل تجربة، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، أصبحت جزءًا من قصته. كل كتاب، كل صفحة، كل كلمة، كل لحظة، أصبحت داخله، في قلبه، في ذهنه، في روحه.

في تلك اللحظة، كتب جملة أخيرة في دفتره:

"الكتاب الذي كنت أبحث عنه لم يكن في المكتبة… كان داخلي دائمًا."

ابتسم آدم، وأغلق الدفتر، وعرف أن رحلته قد انتهت… لكن قصته الحقيقية بدأت الآن، مع كل يوم جديد، مع كل قرار يتخذه، ومع كل كلمة يكتبها أو يعبر عنها.

وهكذا، أصبح آدم حاضرًا، شجاعًا، وواعياً. وكل ما كان يخافه لم يعد قوة خارجة عنه، بل أصبح جزءًا من قوته الداخلية. لقد تعلم أن الحياة كتاب مفتوح، وأنه هو الكاتب، القارئ، والمختار في الوقت نفسه.



تعليقات